في المغرب، لم يكن ما جرى في خريف عام 2025 مجرد موجة غضب عابرة على وسائل التواصل، بل تجلٍّ واضح لتحوّل عميق في وعي جيلٍ جديد لم يعد يكتفي بالتعبير الافتراضي. جيل زد المغربي، المولود بين أواخر التسعينيات ومنتصف العقد الثاني من الألفية، وجد في الفضاء الرقمي ساحةً بديلة عن الشارع التقليدي، ووسيلة للتنظيم والاحتجاج بأدواته الخاصة.
انطلقت الشرارة الأولى داخل خوادم على تطبيق “ديسكورد”، الذي كان في الأصل مخصصاً لهواة الألعاب الإلكترونية. هناك، بدأ شبان وشابات مغاربة يتبادلون النقاشات حول الغلاء، البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية. ومع مرور الأيام، تحوّل خادم يحمل اسم “GenZ212” إلى فضاء نابض بالحركة، يجمع عشرات الآلاف من المستخدمين من مختلف المدن. في غرف صوتية ومرئية، ناقشوا قضاياهم بحرية، صاغوا بيانات رقمية، ونسّقوا أشكالاً جديدة من التعبئة الميدانية.
كان المشهد مختلفاً عن كل ما عرفته البلاد من قبل. لم تكن هناك قيادات حزبية أو شعارات أيديولوجية، بل لغة جيلٍ يتحدث عن الكرامة بلغة الإنترنت، ويستعمل الرموز والـ“ميمز” بدلاً من الخطب. تحولت الرموز التعبيرية إلى شعارات احتجاج، وتحوّلت الدردشات الليلية إلى اجتماعات تخطيط. في خادم GenZ212، توزّعت المهام تلقائياً: من يدير النقاش، ومن ينسّق المواعيد، ومن يصمم المنشورات التي تغزو “تيك توك” و”إنستغرام”.
وجد كثير من الشباب في هذا الفضاء نوعاً من الديمقراطية الرقمية التي افتقدوها في الواقع. الكل له صوت، ولا أحد يحتكر القرار. وبدت هذه التجربة بالنسبة إلى كثيرين تمريناً عملياً على السياسة، لكن من خارج قاعات الأحزاب والمؤسسات الرسمية. فجيل زد، الذي تربّى على اليوتيوبرز والبودكاست والميمزات، لا يرى نفسه في الخطابات الرسمية التي تتحدث بلغة خشبية، ولا في أطر سياسية فقدت صلتها بالشارع.
الحكومة، من جهتها، وجدت نفسها أمام ظاهرة يصعب ضبطها. لا زعيم للتفاوض معه، ولا تنظيم يمكن احتواؤه. كانت الدعوات للاحتجاج تنتشر بسرعة البرق عبر خوادم “ديسكورد” ونسخٍ منها في “تليغرام” و”إنستغرام”. في بعض المدن، تحوّلت الدعوات إلى تجمعات ميدانية سلمية رفعت شعارات اجتماعية، وفي ليالٍ أخرى تحولت إلى مواجهات محدودة مع قوات الأمن.
رغم ذلك، لم يكن الحراك عشوائياً. كثير من المشاركين شددوا على الطابع السلمي، وعلى ضرورة “تحريك الوعي قبل الشارع”. ظهرت مقاطع فيديو توعوية داخل الخوادم، تناقش الدستور، والحقوق، والواجبات، في مشهد يجمع بين الحماسة والتثقيف الذاتي. لم يكن الجيل الجديد يثور فقط على الظروف، بل أيضاً على الطرق القديمة في التفكير والتنظيم.
تصف تقارير إعلامية أجنبية ما يحدث في المغرب بأنه جزء من موجة عالمية يقودها جيل زد، حيث تحوّل تطبيق “ديسكورد” إلى أداة سياسية غير متوقعة. تماماً كما حدث في نيبال، حين استخدم شباب المنصة لتنظيم احتجاجات والمطالبة بتغيير حكومي، بدأ المغاربة يطوّرون أسلوبهم الخاص، مستفيدين من المرونة التقنية التي تتيحها المنصة، ومن الحماية النسبية التي توفرها الطبيعة اللامركزية لهذه الخوادم.
ورغم المخاطر المرتبطة بهذا النوع من التعبئة — كاختراقات أمنية أو انتشار أخبار زائفة — فإن الظاهرة أظهرت شيئاً جوهرياً: أن جيلاً كاملاً من المغاربة بات يرى التكنولوجيا وسيلةً للتعبير السياسي لا تقل أهمية عن الشارع. جيل يطالب بمستقبلٍ لا يشبه الماضي، ويؤمن أن التغيير لا يُصنع فقط في البرلمان أو في الصحف، بل أيضاً في الخوادم الصوتية وغرف النقاش الرقمية.
ما بدأ كلعبة بين أصدقاء على الإنترنت، تحوّل إلى حركةٍ فكرية واجتماعية تعيد تعريف السياسة في زمنٍ رقمي. جيل زد في المغرب لا يرفع راية حزب ولا ينتمي إلى تنظيم، لكنه يرفع صوته، يكتب، يناقش، ويحتجّ. قد لا يمتلك خبرة الأجيال السابقة، لكنه يمتلك شيئاً مختلفاً: الجرأة على الحلم بلغته الخاصة، في فضاء يعتقد أنه ملكه وحده — الإنترنت.
