
منذ عقود ظلت الزاوية القادرية البودشيشية في مداغ فضاء يقدم للناس باعتباره منبعا للسكينة الروحية ومكانا للذكر والتجرد من شواغل الدنيا، غير أن ما كان يروج كرمز للتصوف والزهد أخذ في السنوات الأخيرة ملامح مختلفة، إذ تزايد حضور الأنشطة التجارية والمصالح المادية داخل أسوار الزاوية. فقد صارت مقراتها محاطة بمحلات ومقاهٍ ومراكز بيع تُدار من طرف مقربين من العائلة، حيث تباع المشروبات بأسعار تفوق ما هو متداول في المقاهي العادية، وتعرض التسابيح والمصاحف مقابل أثمان مرتفعة، في مفارقة صارخة مع خطاب الزهد والتبسط الذي يفترض أن يميز التجربة الصوفية.
هذه المظاهر الاقتصادية لم تكن سوى واجهة لأسئلة أعمق تتعلق بالموارد المالية الضخمة التي تتدفق على الزاوية، سواء عبر الهبات الملكية أو تبرعات المريدين أو مساهمات المحسنين من داخل المغرب وخارجه، فضلاً عن دعم مؤسسات عمومية وخاصة تحت مسميات ثقافية ودينية. ورغم حجم هذه الموارد، يظل الغموض سيد الموقف في ما يخص طرق تسييرها، إذ لا تُعلن تقارير مالية ولا تُنظم جمعيات عامة توضح للرأي العام أو حتى لأتباع الزاوية كيفية صرف هذه الأموال، وهو ما يجعلها أشبه بجهاز مالي مغلق يشتغل بعيداً عن أعين المحاسبة والمساءلة.
وسط هذا السياق المشحون بالمصالح والانتقادات، جاء رحيل الشيخ جمال القادري ليكشف عن أزمة جديدة أكثر عمقاً: خلافة المشيخة. فقد انقسم البيت البودشيشي بين مؤيدين لابنه منير باعتباره الوريث الشرعي وفق وصية، وبين من يدفع بأخيه معاذ إلى واجهة المشهد، مستندين إلى تأويلات روحية وشخصية تتعلق بالكفاءة والأهلية. وبينما انتشرت أخبار عن تنازل منير لصالح أخيه، خرجت أصوات أخرى تنفي ذلك وتؤكد استمرار التنافس الخفي، ما جعل الخلاف مادة خصبة للإعلام والنقاش العام.
هذا النزاع تجاوز حدود الأسرة البودشيشية ليأخذ أبعادا سياسية واجتماعية، إذ يرى متابعون أن الزاوية بما تملكه من حضور رمزي وشبكة علاقات واسعة مع مؤسسات الدولة ومراكز القرار، ليست مجرد فضاء روحي، بل أصبحت رقماً صعبا في معادلة النفوذ بالمغرب. وهنا يطرح السؤال عن طبيعة العلاقة بين السلطة والزاوية، وهل يراد لها أن تبقى صوتاً روحيا مستقلا يوازن بين الدولة والمجتمع، أم أن موقعها الديني يُستثمر لشرعنة خيارات سياسية أو لإعادة إنتاج الولاءات باسم التصوف؟
وفي خضم هذا الجدل، يتساءل كثيرون عن مصير رسالة التصوف نفسها داخل الزاوية: هل ستظل دعوة للزهد والتربية الروحية كما تأسست عبر قرون، أم أنها تحولت بالفعل إلى مؤسسة مالية – اجتماعية تبحث عن الاستمرارية عبر تكديس الموارد وحماية النفوذ، حتى وإن كان ذلك على حساب صفاء الذكر وصدق العبادة؟ إنها معركة لا تدور فقط حول من يجلس على كرسي المشيخة، بل حول هوية الزاوية ذاتها: هل تبقى بيتاً للروح أم تتحول نهائياً إلى إمبراطورية مالية محصنة بصراعات العائلة ومظلة السلطة؟